الدبلوماسية بوابة سورية إلى الشرعية الدولية وإعادة البناء السياسي

مقدمة:

في ظلّ عالمٍ يموج بالصراعات، وتعصف به التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تبدو الدبلوماسية أكثر من مجرد أداة ناعمة، بل تتحول إلى خط الدفاع الأول عن سيادة الدول ومكانتها الدولية، خصوصًا في حالات الدول الخارجة من الحروب والانقسامات. ومن هنا تنبع أهمية شعار منتدى أنطاليا الدبلوماسي بنسخته الرابعة: "التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم"، الذي جاء معبّرًا عن اللحظة الدولية الراهنة، ومعبّرًا في ذات الوقت عن حاجة الدول النامية والمتعافية من النزاعات إلى تبني نهج عقلاني ومسؤول في إدارة شؤونها الخارجية.

 

أولًا: سورية الجديدة أمام اختبار الدبلوماسية:

إن مشاركة الرئيس أحمد الشرع في هذا المنتدى الدولي، تُعدّ لحظة سياسية فارقة في تاريخ الجمهورية العربية السورية الحديثة، وتعبيرًا مباشرًا عن تحوّلٍ استراتيجي في طبيعة الخطاب الرسمي، من خطاب المواجهة إلى خطاب الشراكة، ومن منطق الاصطفاف إلى منطق الانفتاح الواعي.

 

لقد أظهرت سورية الجديدة، من خلال هذه المشاركة، أنها تدرك أن الاعتراف الدولي لا يُمنح فقط عبر النصر العسكري، بل يُنتزع عبر الشرعية السياسية والانفتاح الدبلوماسي واحتراف الحضور الدولي، وهو ما جسّده الرئيس الشرع في خطابه المتزن الذي شدد فيه على أهمية احترام سيادة الدول، والحوار كوسيلة أساسية لحل الأزمات.

 

ثانيًا: رؤية تيار المستقبل السوري

إن تيار المستقبل السوري يرى أن الدبلوماسية ليست مجرد وظيفة رسمية أو مسارًا بروتوكوليًا، بل هي ركيزة استراتيجية في مرحلة ما بعد الحرب، لعدة أسباب:

 

  1. استعادة الشرعية الدولية لسورية، وتثبيت صورتها كدولة مسؤولة وليست مجرد ساحة صراع.
  2. جذب الاستثمارات وإعادة الإعمار من خلال بناء علاقات مبنية على الثقة والتعاون.
  3. حماية السيادة الوطنية من الضغوط الخارجية عبر تنويع الشراكات الدولية.
  4. تقديم النموذج السوري الجديد كدولة لا تتبع سياسة المحاور، بل تبني علاقات متوازنة قائمة على الندية والمصلحة المشتركة.

من هنا، فإننا في تيار المستقبل السوري نعتبر أن المنتدى يمثل مساحة اختبار حقيقية للدبلوماسية السورية الناشئة، ويجب البناء عليه عبر تكريس حضور سياسي نشط ومتوازن في كل المحافل الإقليمية والدولية.

 

ثالثًا: الدور البارز لوزير الخارجية الدكتور أسعد الشيباني  

برز وزير الخارجية السوري الدكتور أسعد الشيباني كلاعب محوري في هذا التحول الدبلوماسي، حيث قدّم نموذجًا في الدبلوماسية النشطة والواقعية، وأعاد بناء العلاقات الخارجية لسورية على أساس المبادرة، لا ردود الفعل.

 

لقد عمل الشيباني على:

  • إعادة بناء الثقة مع المحيط الإقليمي، خصوصًا من خلال الانفتاح المدروس على تركيا، والدول العربية الفاعلة.
  • تفعيل الحضور السوري في المنظمات الدولية عبر الوفود المؤهلة والخطابات الرصينة.
  • تعزيز التنسيق مع الجاليات السورية في الخارج لتكون داعمًا دبلوماسيًا رديفًا لصوت الدولة الرسمي.

ويمكن القول إن الخارجية السورية، بقيادة الشيباني، تشكل ذراعًا استراتيجية للدولة في مرحلة إعادة التوازن، وتأسيس شراكات إقليمية قائمة على المصالح لا على الإرث السياسي أو الأيديولوجي.

 

رابعًا: نماذج دولية للدبلوماسية بعد الحرب

1. ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية  

  • رغم دمارها الكامل، استطاعت ألمانيا أن تعود للساحة الدولية من خلال نهج دبلوماسي جديد قادته “دبلوماسية الاعتراف بالخطأ والمصالحة”، فتمكنت من بناء علاقات وثيقة مع فرنسا، ودول أوروبا الغربية، ثم الولايات المتحدة، وأصبحت لاحقًا قاطرة الاتحاد الأوروبي.

2. رواندا بعد الإبادة الجماعية (1994)  

  • اعتمدت رواندا على دبلوماسية المصالحة والاقتصاد المشترك، فعملت على تصفير المشاكل مع جيرانها، وعززت شراكاتها في إفريقيا والعالم، ونجحت في بناء اقتصاد ناهض جعلها أحد أنجح تجارب ما بعد الصراع.

3. البوسنة والهرسك بعد اتفاقية دايتون

  • استفادت البوسنة من دعم دولي، لكن الأهم كان قدرتها على تقديم خطاب دبلوماسي موحّد في المحافل الدولية، رغم انقسام الداخل، وهو ما أتاح لها الحفاظ على وحدتها الترابية وصد الضغوط الإقليمية.

4. جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري

  • قاد نيلسون مانديلا سياسة خارجية تقوم على إغلاق صفحة الماضي دون نسيانه، والانفتاح على الجميع، وهو ما عزز من موقع بلاده عالميًا، دون أن تفرط في سردية نضالها التاريخي.

 

خامسًا: الدبلوماسية الواقعية كأداة لاحتواء التهديدات ومنع الانفجار:

إنه وفي ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة، يبقى التهديد الإسرائيلي، سواء في صورة حرب محتملة أو في شكل توغلات عسكرية مستمرة، من أبرز الهواجس الأمنية والسياسية التي تواجه الدولة السورية في مرحلتها الانتقالية. وهنا تبرز أهمية الدبلوماسية الواقعية، لا كترف سياسي، بل كحائط صد استراتيجي أمام المغامرات الإقليمية، والفراغات التي قد تستغلها قوى أجنبية لفرض أجنداتها.

إنّ التمسك بالخطاب السياسي العاقل والمنفتح، وبناء شبكة علاقات إقليمية متينة، وتكثيف الحضور السوري في المحافل الدولية، كلها عناصر تساهم في تحصين القرار الوطني السوري من العزلة، وتُعقّد الحسابات السياسية لأي طرف يسعى لاستهداف البلاد، سواء عبر التلويح بالحرب أو عبر اختراقات أمنية محدودة.

 

وإنّ إسرائيل التي تبني جزءًا كبيرًا من استراتيجيتها تجاه سورية على فرضية الانكشاف السياسي أو غياب الدولة المركزية، ستجد نفسها أمام معادلة أكثر تعقيدًا في ظل وجود سلطة شرعية قادرة على بناء تحالفات سياسية، وحشد موقف دولي رافض لأي خرق للسيادة.

 

من هنا، فإن تيار المستقبل السوري يرى أن الردع لا يكون فقط عسكريًا، بل أيضًا دبلوماسيًا، حين تتحول سورية إلى رقم فاعل في معادلات التوازن الإقليمي، لا مجرد هامش أو ساحة اختبار لصراعات الآخرين.

 

ختاماً:

إن المنتدى الذي شارك فيه الرئيس أحمد الشرع لم يكن مجرد حدث دولي فحسب، بل منصة سياسية لإعلان العودة السورية إلى الحضور الدولي من بوابة الدبلوماسية، وهو ما يدعونا إلى:

 

  1. ترسيخ مؤسسة سياسية تعيد بناء الخطاب الخارجي على أساس المصالح العليا.
  2. إشراك النخب الأكاديمية والدبلوماسية السورية في صياغة الموقف الوطني.
  3. تحويل كل محفل دولي إلى مساحة لترويج سردية سورية الجديدة القائمة على المصالحة، السيادة، والانفتاح.

إننا في تيار المستقبل السوري، وفي ظل عالم منقسم نعيشه اليوم، نرى أن الدبلوماسية الواعية هي الطريق الأنجع لحماية الوحدة الوطنية، وبناء مكانة إقليمية مستقلة، وتكريس هوية سورية جامعة لكل أبنائها.

 

د. زاهر بعدراني

مكتب الرئاسة

مقال

تيار المستقبل السوري

شاركها على:

اقرأ أيضا

حول المرسوم الرئاسي رقم 42 لعام 2025: نحو كفاءة مؤسسية عادلة

كيف يسهم المرسوم الرئاسي رقم 42 لعام 2025 في تحسين كفاءة العمل ودعم الخبرات في القطاعات الحيوية

16 يوليو 2025

إدارة الموقع

حول مشاركة سورية في اجتماع الاتحاد من أجل المتوسط

سورية في اجتماع الاتحاد: خطوة هامة نحو تحسين الخدمات العامة وتعزيز التنمية المستدامة.

16 يوليو 2025

إدارة الموقع