شَعرة معاوية، ما بين هامش حرية اختلاف الرأي، وتجاوز هيبة الدولة في النقد!

في زمن التحولات تبرز الحاجة لضبط المفاهيم، ومع ما تشهده منطقتنا اليوم من تحوّلات جذرية فإنها تتطلب منا مراجعة جدية للعلاقة بين حرية التعبير وهيبة الدولة، خاصة في المجتمعات الخارجة من نير الاستبداد نحو آفاق الحوكمة الرشيدة.

وهنا تبرز "شَعرة معاوية" التي تفصل بين الحق المشروع في النقد، ومحاولات العبث بمكانة الدولة وهيبتها.

فلا يجوز أن تختلط الحرية الهادفة بالفوضى الممنهجة، ولا أن تُقمع الأصوات بحجة الاستقرار، ولا أن يُستباح النظام العام بذريعة المعارضة والنقد!. 

أولًا: حرية الرأي، حقٌّ لا يُستجدى:

في الدولة الديمقراطية، حرية الرأي ليست منحة، بل حقٌّ أصيلٌ تكفله الدساتير والمواثيق الدولية. 

إنها صمّام أمان سياسي، وآلية رقابة مجتمعية، وأداة للتقويم والتصحيح.  

فالحرية هنا لا تعني تمجيد السلطة، بل تعني النقد البنّاء، ورفض الانحراف، والدفاع عن مصالح الشعب في إطارٍ سلمي وقانوني.

ولعلنا نجد هنا أن الدول التي احترمت تعدد الآراء، وشجّعت الصحافة الحرة، واستوعبت النقد، كانت هي الأقدر على الصمود والاستمرار، بينما فشلت تلك التي كمّمت الأفواه وجرّمت المعارضة.

ثانيًا: هيبة الدولة، احترامٌ لا قمع:

لاشك أن هيبة الدولة لا تُختزل بالخوف، بل تُبنى على احترام القانون، وسيادة العدالة، وشرعية المؤسسات.  

فالدولة التي تُفقِد قوانينها هيبتها، وتُفرغ مؤسساتها من مضمونها، تُفقُد مكانتها داخليًا وخارجيًا. 

وهنا لابد من التشديد على أن الهيبة الحقيقية للدولة إنما تنبع من ثقة المواطن بعدالة دولته، لا من سطوة أجهزتها.

فمن يُمارس النقد المشروع لا يُهدِّد الدولة، بل يُسهم في صيانتها، أما من يُجيّش عليها طائفيًا، أو يُحرض على العنف ضدها، أو يسيء بقصد تقويض الرموز والمؤسسات، فهو يتجاوز حدود الحرية نحو مربع الفوضى.

ثالثًا: بين الحرية المسؤولة والفوضى المتعمدة:

  1. هناك شعرة دقيقة تفصل بين التعبير الهادف والخطاب الهدّام.  
  2. فالرأي المسؤول يبني، يصوّب، ويُقتَرحُ ضمن الأطر القانونية.  
  3. أما الفوضى، فتشوّه، وتحرّض، وتبتزُّ، وتستخدم المنصات لبثِّ الكراهية لا الإصلاح!.

إن الحاجة اليوم هي لحريةٍ تحترم التنوع، وتبني الثقة، وتحفظ المؤسسات، لا حريةٍ تستبيح كل شيءٍ باسم النقد.

رابعًا: رؤية تيار المستقبل السوري:

نحن في تيار المستقبل السوري نؤمن أن:

  1. حرية التعبير ركيزة التحول الديمقراطي، وهي حقٌّ لا يقبل المساومة.
  2. هيبة الدولة ضرورة لبقاء الدولة، ويجب حمايتها من الاستهداف.
  3. التوازن بين الحرية والهيبة هو ما نعمل على ترسيخه: ((دولةٌ قويةٌ تحترم الرأي، وشعبٌ حرٌّ يحترم دولته)).

وهنا ندعو إلى صياغة منظومة وطنية لحرية التعبير تحمي الرأي، وتجرّم التحريض، وتُعزز الإعلام الحر، وتُشجع ثقافة النقد المسؤول.

خامسًا: نحو عقدٍ اجتماعيٍّ جديد:

في سورية المستقبل، لا يمكن الحديث عن بناء دولة عادلة ومستقرة دون تأسيس عقد اجتماعي جديد، يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أسس حديثة، عادلة، وراشدة.  

هذا العقد لا بد أن يُجسّد إرادة السوريين جميعًا، ويُعبّر عن تطلعاتهم نحو الحرية والكرامة، ويكسر المنظومة القديمة التي قامت على الإقصاء والتسلط والفساد.

1. الحريات وحقوق المواطنة أساس لا يُمَسّ: 

  • ينبغي أن يكون هذا العقد الجديد ضامنًا للحريات العامة والخاصة، وخصوصًا حرية الفكر والتعبير والمعتقد، وحق التنظيم والمشاركة السياسية.  
  • وأن يُكرّس مبدأ المواطنة المتساوية، بحيث لا يُميَّز بين السوريين على أساس الطائفة أو القومية أو الانتماء السياسي، بل يكون الجميع متساوين في الحقوق والواجبات تحت مظلة القانون.

2. مؤسسات تستوعب النقد وتستجيب للمساءلة:  

  • العقد الجديد يجب أن يُنتج مؤسسات حديثة فاعلة، تُبنى على الكفاءة والنزاهة، وتكون قادرة على استقبال النقد البنّاء، لا أن تخافه أو تعاقبه.  
  • مؤسسات تعكس إرادة الشعب، وتُمارس السلطة بقدر من المسؤولية والشفافية، وتخضع للمحاسبة لا للمحاباة.

3. العدالة حجر الزاوية: 

  • لا يمكن أن تستقيم العلاقة بين المواطن والدولة دون ترسيخ العدالة عبر نظام قضائي مستقل، ونزيه، وفاعل، يُعيد الحقوق إلى أهلها، ويضمن عدم الإفلات من العقاب.  
  • العدالة هي التي تُعيد ثقة الناس بالدولة، وتحمي السلم الأهلي، وتمنع النزاعات من التسلل إلى الفراغات القانونية أو الطائفية.

4. مكافحة الفساد وبناء الثقة:  

  • فالعقد الاجتماعي الجديد لا يكتمل إلا بوجود إرادة جادة لاستئصال الفساد بجميع أشكاله، سواء في الإدارة، أو القضاء، أو الاقتصاد.  
  • وأن يُطلق مشروعًا وطنيًا لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، من خلال تمكين المواطن من الرقابة والمشاركة، وإعادة الاعتبار للمصلحة العامة فوق المصالح الضيقة.

5. مشاركة الشعب في صناعة القرار: 

  • لا بد أن يتضمن العقد الجديد آليات واضحة لـِ مشاركة الشعب في صنع القرار، سواء عبر الانتخابات النزيهة، أو عبر تمكين المجالس المحلية، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام المستقل.  
  • فالشعب ليس تابعًا، بل شريك أصيل في إدارة الوطن وتحديد مستقبله.

إننا في تيار المستقبل السوري نؤمن أن هذا العقد الاجتماعي الجديد هو المدخل الحقيقي لبناء سورية العدالة والحرية والسيادة. 

وأن الطريق إليه يبدأ من متابعة الحوار الوطني الجامع فلا يستثني أحدًا، ويهدف إلى صياغة مشروع وطني توافقي، ينهي عصور الانقسام والاستبداد، ويؤسس لمرحلة جديدة من التشاركية والمسؤولية.

فكما أن الدولة يجب أن تحترم مواطنيها، فإن المواطنين يجب أن يحترموا مؤسساتهم، وهذا لا يتحقق إلا حين يشعر الجميع بأنهم شركاء في هذا الوطن، لا غرباء فيه.

خاتمة:

الحرية لا تُلغي هيبة الدولة، والهيبة لا تُبرر قمع الحرية!! فبينهما تكامل ضروري لبناء وطن يُعلي من شأن القانون، ويُصون كرامة الإنسان، ويحتضن الاختلاف بثقة وعدالة.

إن سورية الجديدة التي نحلم بها هي دولة لا تخاف الرأي، ولا تهاب النقد، لأنها تستمد شرعيتها من العدل، وقوتها من ثقة أبنائها.

 

د. زاهر بعدراني

مكتب الرئاسة

مقال

تيار المستقبل السوري

شاركها على:

اقرأ أيضا

أخبار يوم الجمعة 11-07-2025

تحديثات شاملة عن أخبار يوم الجمعة 11-07-2025

11 يوليو 2025

إدارة الموقع

أهمية الرقابة الشعبية في حماية مسار التحول الوطني

أهمية الرقابة الشعبية في بناء مؤسسات الدولة الجديدة وإعادة رسم مستقبل سوريا.

11 يوليو 2025

إدارة الموقع