مقدمة:
من أبرز الإشكاليات المركّبة التي تطرح نفسها في لحظة ما بعد الانتصار العسكري، هي تلك التي ترتبط بمآلات القوى غير النظامية التي شاركت في المعركة، خاصة عندما يكون جزء منها من الجهاديين الأجانب.
الرئيس أحمد الشرع، الذي قاد معارك حاسمة في الساحل السوري ضد فلول النظام العلوي ومن تحالف معهم، استطاع حسم جزء كبير من المشهد العسكري لصالحه، بمساعدة قوى متعدّدة من بينها مجموعات جهادية أجنبية دخلت على خط المواجهة بفعالية قتالية شديدة.
ورغم ما تحقق من إنجازات ميدانية، إلا أن هذه المشاركة أفرزت معضلة مركبة: كيف يمكن الاستفادة من هذه القوى المؤقتة دون أن تتحوّل إلى عبء استراتيجي يهدّد الحكم الناشئ واستقراره؟
نستعرض هنا تجارب دولية مماثلة، ونقترح حلولاً عملية ومبتكرة لمعالجة هذا الملف الحسّاس من وجهة نظرنا، بحيث لا تنقلب مكتسبات الانتصار إلى مصدر اضطراب داخلي أو عزلة خارجية!.
أولاً: الجهاديون الأجانب من أداة قتال إلى معضلة شرعية:
منذ لحظات التأسيس الأولى للنظام الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع، برزت أهمية الحسم العسكري كخطوة ضرورية لكسر بقايا سلطة النظام العلوي.
وفي هذا السياق، انخرطت مجموعات جهادية أجنبية من آسيا الوسطى وشمال إفريقيا والشيشان وأوروبا في معركة إسقاط نظام الأسد، حيث لعبت دورًا تكتيكيًا مهمًا في ترجيح الكفّة لصالح قوى الثورة.
وهنا الواقع السياسي والأمني يفرض أسئلة حرجة وتحتاج لأجوبة:
- ما طبيعة هذه الجماعات؟
- وما مدى ولائها للمشروع السوري الوطني؟
- وكيف يمكن التخلّص من سطوتها بعد انتهاء دورها القتالي؟
- وهل يستطيع الرئيس الشرع الاستمرار في الحكم بوجود جماعات لا تعترف بالحدود السياسية ولا بالمواطنة، بل تنتمي لعقيدة فوق وطنية؟
ثانيًا: كيف تعاملت دول العالم مع ظاهرة الجهاديين الأجانب؟
1. الجزائر بعد العشرية السوداء
- اتبعت الجزائر مطلع الألفية سياسة الوئام المدني، وقدمت عفوًا مشروطًا للجماعات الإسلامية المسلحة، تخلله نزع السلاح مقابل اندماج محدود. لكنّها تعاملت بحزم مع العناصر الأجنبية، حيث طُرِدت بعضهم، وسُجِن آخرون، وتعاونت الجزائر مع دولهم الأصلية لترحيلهم ضمن اتفاقيات أمنية.
- يذكر أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قال عام 2006: "من لا وطن له لا مستقبل له، ومن لا يؤمن بالدولة لا مكان له بيننا."
2. العراق بعد 2003
في سياق مشابه، واجهت الحكومات العراقية تحديًا مماثلًا بعد سقوط نظام صدام حسين، حين تدفقت جماعات أجنبية عبر الحدود للقتال ضد الوجود الأمريكي والسلطة الجديدة، فاعتمدت بغداد على استراتيجية مزدوجة:
- الاحتواء القسري: بالقتل أو الاعتقال.
- التفكيك العقائدي: ببرامج داخل السجون لإعادة النظر في الفكر الجهادي.
3. التجربة الليبية
- في ليبيا، سقط القذافي بفعل قوى متحالفة، بينها جماعات إسلامية ومسلحون أجانب، لكن غياب خطة واضحة للتعامل مع هؤلاء المقاتلين أدى لاحقًا إلى تحوّلهم إلى أمراء حرب، وسيطروا على موانئ ومناطق نفطية، مما أدّى لانقسام سياسي وأمني مستمر.
تحذير مبكر أطلقه ممثل الأمم المتحدة لليبيا مارتن كوبلر في ديسمبر 2016: "إن ترك المقاتلين الأجانب دون معالجة ممنهجة قد يعيد إنتاج العنف تحت رايات جديدة."
4. نموذج روسيا الشيشاني
- روسيا واجهت مقاتلين أجانب في الشيشان وطبّقت عليهم سياسة "الضرب بلا تفاوض"، ما أدى إلى مجازر لكنها نجحت في إنهاء التمرد. النموذج الروسي أثبت فاعليته الأمنية لكنه ترك آثارًا حقوقية مروّعة.
5. البوسنة والهرسك (بعد الحرب 1992-1995)
- خلال حرب البوسنة، قاتل إلى جانب مسلمي البوسنة عدد من الجهاديين الأجانب، خصوصًا من العالم العربي.
- لكن بعد توقيع اتفاقية دايتون (1995)، أصبح وجودهم عقبة أمام الاستقرار وتنفيذ الاتفاق السياسي، فطالبت الولايات المتحدة وأوروبا الحكومة البوسنية بطردهم.
- فتم إلغاء جوازات السفر التي منحت لهؤلاء الجهاديين خلال الحرب، وأُجبر كثيرون على العودة إلى بلدانهم، أو جرى تسليمهم إلى دولهم، وبعضهم خضع للمحاكمة.
- ونذكر هنا مقولة: "لا يمكن بناء دولة مدنية بجيوب أيديولوجية مسلحة من خارج الحدود" – المبعوث الأمريكي للبوسنة 1996.
6. الصومال – (تنظيم الشباب المجاهدين)
- منذ 2007، انخرط مسلحون أجانب (من كينيا، اليمن، أوروبا) في تنظيم الشباب المتطرف.
- لكن الحكومة الصومالية المدعومة من الاتحاد الإفريقي اعتمدت لاحقًا سياسة مزدوجة:
- العزل الجغرافي لتلك العناصر عن المدن الرئيسية.
- اغتيالات نوعية وتصفية ميدانية بالتنسيق مع القوات الأمريكية.
- بالإضافة لبرامج تسليم للعناصر الأجنبية بالتعاون مع دولهم الأم.
7. أفغانستان (حقبة ما بعد طالبان 2001–2021)
- بعد سقوط طالبان عام 2001، كانت هناك أعداد كبيرة من المقاتلين العرب والشيشان والباكستانيين.
- حيث قامت القوات الأمريكية وقوات التحالف باعتقال العديد منهم في سجن باغرام أو سجن غوانتانامو.
- فالحكومة الأفغانية لم تكن تملك القدرة على ترحيلهم منفردة، لذا تمت العملية بالتعاون الاستخباراتي مع الدول الكبرى.
- ولاحقًا، وُضِعت قوانين تحظر الإقامة أو النشاط السياسي لأي أجنبي على الأراضي الأفغانية.
8. نيجيريا (حركة بوكو حرام والفروع الأجنبية)
- استقطبت حركة بوكو حرام بعض العناصر الأجنبية من النيجر وتشاد ومالي، وكانت تشكل تهديدًا للأمن النيجيري.
- قامت الحكومة بـ:
- حملات عسكرية على الحدود لمنع دخول أو فرار المقاتلين.
- ثم تنسيق إقليمي عبر تحالف "القوة متعددة الجنسيات" لترحيل أو تصفية العناصر غير النيجيرية.
9. الفلبين (تنظيم أبو سياف ومقاتلو جنوب آسيا)
- انضم إلى تنظيم أبو سياف (في جزيرة مينداناو) مقاتلون من ماليزيا وإندونيسيا واليمن.
- السلطات الفلبينية: حاصرتهم جغرافيًا في مناطق جزرية.
- ثم استخدمت طائرات أمريكية مسيّرة لتصفية القيادات الأجنبية.
- ثم أنشأت برامج استسلام وتأهيل للمقاتلين غير الفاعلين.
استخلاصات عامة من التجارب الدولية:
الدول التي نجحت في معالجة ملف المسلحين الأجانب اعتمدت غالبًا على خليط من:
- الحزم الأمني (الترحيل – التصفية – الاعتقال).
- الشرعية القانونية (محاكمات – إسقاط الجنسية – عقوبات).
- التعاون الدولي (مع الدول الأصلية أو المنظمات الدولية).
- عدم دمجهم في أي مشروع وطني طويل الأمد.
ثالثًا: رسائل دولية إلى الرئيس أحمد الشرع بشأن هذا الملف
- عدد من الدول وجهت خلال الأسابيع الأخيرة، رسائل دبلوماسية مبطّنة وصريحة للرئيس أحمد الشرع تحثّه على إيجاد حل عاجل لهذه الظاهرة:
- الولايات المتحدة (مارس 2025): دعت في تصريح لوزارة خارجيتها إلى “ضرورة احتواء العناصر الجهادية العابرة للحدود حفاظًا على استقرار الدولة السورية الحديثة”.
- فرنسا (يناير 2025): صرّح وزير خارجيتها أن "أي دولة تتسامح مع فصائل أيديولوجية فوق وطنية ستكون تحت مجهر المجتمع الدولي".
- روسيا (فبراير 2025): عبّرت عن قلقها من "تمركز خلايا غير سورية على مقربة من الحدود الروسية الجنوبية"، معتبرة أن "الاستقرار لا يتحقق إلا بتطهير البيئة السورية من التأثيرات العابرة للجغرافيا".
- تركيا (مارس 2025): أبدت في لقاء مغلق دعمها "لكل جهد يضمن انسحاب المقاتلين غير السوريين من الجغرافيا الحساسة قرب الساحل" بشرط أن يتم الأمر دون استفزاز الحساسيات الطائفية.
رابعًا: خيارات استراتيجية أمام الرئيس الشرع
استنادًا إلى التجارب السابقة والخصوصية السورية، يوصي تيار المستقبل السوري باتباع استراتيجية متعددة المحاور:
1. إعادة توجيه العناصر الأجنبية خارج الجغرافيا السورية
- فتح معابر آمنة بوساطة دولية لضمان خروج آمن منظم.
- تقديم ضمانات قانونية بالتنسيق مع منظمات دولية لعدم تصفية المغادرين ما لم يرتكبوا جرائم.
2. برامج احتواء وفك الارتباط
- برامج "تحييد أيديولوجي" في مراكز مغلقة.
- كتقديم إغراءات اقتصادية للانسحاب من العسكرة، خاصة للشباب غير المؤدلج بالكامل.
3. تسليم مشروط لبعض القادة
- بعض قادة الجهاديين ممن تلطخت أيديهم بالدماء أو ارتكبوا انتهاكات يجب تسليمهم لدولهم، وفق اتفاقيات تحترم السيادة، على أن يتم ذلك بصورة مدروسة تمنع ردات الفعل الانتقامية.
4. تأسيس مجلس أمني وطني مستقل
- مكوّن من شخصيات وطنية وحقوقية وعسكرية لرسم سياسة شاملة في التعامل مع الملف، بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة.
5. حملة وطنية إعلامية ومجتمعية
- لشرح خطوات الدولة، وحشد التأييد الشعبي لأي تحركات تخص الجماعات الأجنبية. فالمعركة ضد التطرف لا تُخاض عسكريًا فقط، بل عبر كسب العقول.
خاتمة: بين المعركة والبناء
إن الرئيس أحمد الشرع، وقد أنهى بنجاح معارك التحرير في الساحل، يواجه اليوم معركة أكثر تعقيدًا: معركة بناء الدولة.
ولا بناء دون تطهير الأرض من الفوضى العابرة، وضبط مراكز القوة، وتحقيق السيادة الكاملة.
إن تيار المستقبل السوري يرى أن الفرصة التاريخية التي يملكها الرئيس الشرع الآن تتطلب شجاعة في القرارات، وذكاءً في التوقيت، ورؤيةً تتجاوز الميدان إلى مشروع دولة تستوعب الشعب، لا المقاتلين العابرين.
فإنْ كان الجهاديون الأجانب رافعة آنية في معركة التحرير، فإن استمرار وجودهم دون ضبط أو تفكيك قد يتحوّل إلى قيدٍ يكبّل مشروع الحكم نفسه.
وبناءً عليه، فإننا في تيار المستقبل السوري نؤكد أن التعامل مع ملف الجهاديين الأجانب يجب أن يتم وفق مقاربة وطنية شاملة، تأخذ في الحسبان:
- ضرورة استعادة القرار السيادي بالكامل، وعدم السماح بأي وجود مسلح خارج الدولة مهما كانت مبرراته أو انتماءاته.
- تقديم مشروع سياسي واضح يطمئن الداخل والخارج بأن سورية تسير نحو دولة قانون ومؤسسات لا ملاذًا لفكر عابر للحدود أو مشروعات أيديولوجية دخيلة.
- تعزيز العلاقات مع القوى الدولية والإقليمية من خلال الشفافية في إدارة هذا الملف، وطمأنة العالم أن الدولة السورية الجديدة قادرة على حماية أمنها وأمن محيطها دون الحاجة لقوى غير سورية.
- التمييز الصارم بين من قاتل دفاعًا عن سورية، ومن يريد فرض مشروعه الخاص على أرضها، فلا مساواة بين من احترم السيادة الوطنية، ومن يعمل على تقويضها.
وفي الختام، إن تيار المستقبل السوري يدعو الرئيس أحمد الشرع إلى اغتنام هذه اللحظة التاريخية لإثبات أن الدولة التي حُررت بالسلاح، لا تُبنى إلا بالسيادة، ولا تترسخ إلا بالقانون، ولا تستقر إلا عندما ينتهي عهد السلاح غير الشرعي، ويبدأ عهد المواطن الحر والمشروع الوطني الجامع.
إن سورية الجديدة لا تُبنى بالأذرع المستوردة، بل بالإرادة الوطنية الصادقة، وهذا ما سيكون.
المكتب السياسي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري