مقدمة:
شهد الاقتصاد السوري تدهوراً غير مسبوق خلال عقود من حكم نظام الأسد الاب والإبن، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 86% بين عامي 2011 و2021، ووفقاً لتقديرات البنك الدولي أدت الحرب بين الشعب الثائر وسلطة بشار الأسد والعقوبات الدولية (مثل قانون "قيصر") إلى تدمير البنية التحتية، وانهيار القطاعات الإنتاجية الرئيسية كالزراعة والصناعة، وارتفاع معدلات الفقر إلى 90% من السكان .
ومع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، فإن الحكومة الانتقالية تواجه تحدياً ثلاثياً: إعادة الإعمار، ورفع العقوبات، وإصلاح الهيكل الاقتصادي المُشوّه.
سياسات تقييد الاستيراد: الأهداف والتحديات
تهدف السياسات المقترحة من قبل بعض المستشارين الاقتصاديين لفرض قيود مالية على استيراد السلع الكمالية إلى تحقيق عدة أهداف:
- تحفيز الإنتاج المحلي، عبر خفض الاعتماد على الواردات، خاصةً مع تراجع القدرة على توفير العملة الصعبة بعد انهيار الاحتياطيات الأجنبية إلى 2 مليار دولار عام 2014 .
- تحسين الميزان التجاري، إذ بلغت الواردات عام 2017 نحو 5.6 مليار دولار مقابل صادرات لا تتجاوز 1.7 مليار دولار .
- توجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية، كالزراعة والصناعات التحويلية، والتي كانت تمثل 20% و19.6% من الناتج المحلي قبل الحرب .
ولكننا نرى أن هناك ثلاث تحديات يجب مراعاتها، وهي:
- تصنيف السلع، إذ يصعب تحديد ما هو "كمالي" في ظل تدهور القوة الشرائية، حيث يعتمد 69% من السوريين على المساعدات الإنسانية .
- ارتفاع الأسعار، حيث قد تفاقم القيود من التضخم المفرط الذي بلغ 300% عام 2017 ، ووصلت إلى 99.7% عام 2024 .
- التأثير على العلاقات التجارية خاصة مع الدول المجاورة مثل تركيا ولبنان، والتي تعتمد عليها سوريا في استيراد المواد الأساسية .
صندوق التمويل الصناعي: آليات التنفيذ ومخاطر الفشل
يعتمد إنشاء الصندوق على فكرة "التمويل الذاتي" عبر إيداعات المستوردين بالدولار، مع منح قروض بفائدة 1% شهريًا (12.65% سنوياً). بينما تبدو الفكرة جذابة نظرياً، إلا أن تطبيقها يواجه عقبات جوهرية، مثل تكلفة التمويل المرتفعة، إذ تُعد نسبة الفائدة المقترحة أعلى من المتوسط العالمي لتمويل المشاريع الصغيرة، مما يثقل كاهل الصناعيين في ظل بيئة اقتصادية هشة، إضافة لغياب الشفافية، فتاريخياً، تم استغلال الصناديق الحكومية في سوريا لدعم شبكات الفساد، كما حدث مع شركات القطاع العام التي خسرت 70% من قيمتها، عدا عن عدم كفاية رأس المال، حيث قُدرت تكلفة إعادة الإعمار بأكثر من 400 مليار دولار ، بينما تبقى إيرادات الصندوق محدودة في ظل انكماش حجم الاستيراد.
التجارب التاريخية والدروس المستفادة
تشير تجربة سوريا في عقد السبعينيات إلى أن السياسات الاشتراكية المركزية (كالتأميم وتقييد الاستيراد) أدت إلى هروب رؤوس الأموال وتراجع الاستثمارات، في المقابل، نجحت تجربة المناطق الصناعية (مثل مدينة عدرا الصناعية) في تسهيل التكتلات الإنتاجية عندما وُفرت البنية التحتية والإعفاءات الضريبية، وهذا مانرى أنه يؤكد بأن النجاح مرهون ببيئة استثمارية جاذبة، وليس بالقيود فقط.
خاتمة:
انطلاقاً مما سبق، فإننا في المكتب الاقتصادي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:
- إصلاح النظام المصرفي، لاستعادة الثقة وجذب الودائع السورية في الخارج، والتي تقدر بمليارات الدولارات .
- شراكات القطاعين العام والخاص عبر خصخصة الشركات الخاسرة مع ضمان حوكمة رشيدة، كما أشار وزير المالية السوري في إحدى اقتراحاته.
- دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، عبر تمويل ميسر وبرامج تدريب، مستفيدين من تجربة المناطق الصناعية في دمشق وحلب .
- التكامل الإقليمي مع دول مثل العراق والأردن وتركيا ولبنان لإنشاء سلاسل إمداد بديلة، خاصة في قطاعي النسيج والزراعة.
وبالتالي يمكن أن نستخلص من كل ذلك، أن المسير يجب أن يُحدد بالتوجه نحو نموذج اقتصادي متوازن، ففي حين أن سياسات تقييد الاستيراد وتمويل الصناعة قد تكون ضرورية مرحلياً، إلا أن نجاحها يتطلب إطاراً شاملاً يشمل رفع العقوبات الدولية تدريجياً لدعم الانفتاح التجاري، كما بدأت واشنطن والاتحاد الأوروبي بالتفاوض حوله، إضافة لإصلاح مؤسسي لمحاربة الفساد الذي صنفته منظمة الشفافية الدولية كأحد أسوأ النظم عالمياً، وأخيراً دعم دولي وإقليمي كالمبادرة السعودية-القطرية لدعم إعادة الإعمار.
المكتب الاقتصادي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
دراسة
تيار المستقبل السوري