مقدمة:
شهد العقد الماضي تحولًا جذريًا في النظام المالي العالمي مع ظهور العملات الرقمية (Cryptocurrencies)، التي تعتمد على تقنية البلوكشين (Blockchain) لتحقيق اللامركزية والأمان. بدأت هذه الظاهرة كفكرة ثورية لتحدي الأنظمة المالية التقليدية، لكنها تحولت إلى ظاهرة عالمية تثير الجدل بين مؤيديها الذين يرونها مستقبل المال، ومعارضيها الذين يحذرون من مخاطرها.
بالمقلب الآن، وبعد سنوات من الصراع والتدهور الاقتصادي تحت نظام الأسد، تواجه سورية تحديات كبيرة لإعادة بناء اقتصادها وتحقيق الاستقرار.
في هذا السياق، أصبحت العملات الرقمية أحد المواضيع المثيرة للاهتمام كوسيلة محتملة لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية. في هذا المقال، سنتناول واقع استخدام العملات الرقمية في سورية بعد التحرير من الأسد، ونسلط الضوء على إيجابيات وسلبيات هذا الاستخدام، ومدى إمكانية مساهمتها في وقف التدهور الاقتصادي.
النشأة والتطور التاريخي:
ظهرت العملات الرقمية كرد فعل على الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث سعت إلى إلغاء الحاجة إلى الوساطة المالية التقليدية. ففي أكتوبر 2008، نشر شخص أو مجموعة تحمل اسم "ساتوشي ناكاموتو" الورقة البيضاء (White Paper) التي قدمت مفهوم "بيتكوين" (Bitcoin) كأول عملة رقمية لامركزية.
اعتمدت بيتكوين على تقنية البلوكشين، وهي سجل رقمي مشفر وغير قابل للتعديل، لضمان الشفافية والأمان.
وبحلول عام 2010، بدأت بيتكوين تكتسب زخمًا مع أول عملية شراء حقيقية (شراء بيتزا بقيمة 10,000 بيتكوين).
وفي السنوات التالية، ظهرت عملات رقمية أخرى مثل إيثريوم (Ethereum) عام 2015، التي قدمت مفهوم العقود الذكية (Smart Contracts)، مما وسع استخدامات البلوكشين من مجرد تحويل الأموال إلى تطبيقات في قطاعات مثل التمويل اللامركزي (DeFi).
الواقع الحالي للعملات الرقمية:
يضم اليوم سوق العملات الرقمية آلاف الأنواع، تتراوح قيمتها السوقية الإجمالية بين 1-3 تريليون دولار (حسب تقلبات السوق). تشمل أبرزها:
- البيتكوين، حيث لا تزال المهيمنة، وتُعامل كـ"ذهب رقمي".
- الإيثريوم، ركزت على التطبيقات اللامركزية.
- عملات مستقرة (Stablecoins) مثل "تيثير" (USDT) المرتبطة بالدولار.
هذا ومن الناحية المؤسسية، بدأت شركات كبرى مثل "تسلا" و"ماستركارد" و "بايبال" في تبني العملات الرقمية كوسيلة دفع أو استثمار.
كما أطلقت دول مثل السلفادور البيتكوين كعملة قانونية، بينما تعمل الصين على تطبيق عملة رقمية رسمية (CBDC).
من ناحية أخرى، تشهد العملات الرقمية تطورات تنظيمية متباينة.
ففي حين تشجع سويسرا وسنغافورة الابتكار، تفرض دول مثل الصين والهند قيودًا صارمة، وفي الاتحاد الأوروبي، يجري العمل على إطار تنظيمي (MiCA) لمراقبة المخاطر.
التحديات الرئيسية:
تواجه العملات الرقمية عدة تحديات تعيق تبنيها على نطاق واسع أهمها:
- التحديات التنظيمية: غياب إطار قانوني موحد يعقد التعامل العالمي، فبعض الدول تعتبرها أصولًا مالية، وأخرى تحظرها لارتباطها بالأنشطة غير المشروعة.
- الأمان والاحتيال: تعرضت منصات تداول مثل "إم تي جوكس" (Mt. Gox) و"إف تي إكس" (FTX) لاختراقات أو إفلاس، مما أدى إلى خسائر بمليارات الدولارات.
- التأثير البيئي: يتطلب تعدين البيتكوين طاقة هائلة، حيث يُستهلك ما يعادل استهلاك دول مثل الأرجنتين سنويًا، مما أثار انتقادات بيئية.
- التقلبات السعرية: تتسم العملات الرقمية بتقلبات حادة، فمثلًا انخفضت قيمة البيتكوين من 69 ألف دولار (نوفمبر 2021) إلى 16 ألف دولار (نوفمبر 2022).
- التحديات التقنية: محدودية سرعة معاملات البلوكشين (مثل 7 معاملات/ثانية في بيتكوين مقابل 24,000 في فيزا) تعيق التوسع.
إيجابيات وسلبيات:
يتفق الاقتصاديون على أن سوق العملات الرقمية مليء بالإيجابيات بالتوازي مع السلبيات، ولعل أهم هذه الايجابيات تعود إلى:
- الشمول المالي، حيث تتيح الوصول إلى الخدمات المالية لملايين غير المتعاملين مع البنوك.
- السرعة والتكلفة، للتحويلات دولية فورية برسوم زهيدة مقارنة بالتحويلات التقليدية.
- الشفافية، فالبلوكشين يمنع التلاعب بالسجلات المالية.
- الابتكار، فظهور تطبيقات جديدة مثل التمويل اللامركزي (DeFi) والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs).
وأما سلبيات العملات فتعود إلى:
- غياب الحماية القانونية، حيث لا يوجد ضمان لاسترداد الأموال في حالات الاختراق.
- الاستخدام في الأنشطة غير المشروعة، مثل غسيل الأموال بسبب إمكانية إخفاء الهوية.
- الاستهلاك الطاقة و تهديد الاستدامة البيئية.
- التقلبات التي تجعلها غير مناسبة كمخزن للقيمة أو وسيلة دفع يومية.
يمكن القول إن العملات الرقمية تُشكل ثورة تكنولوجية ومالية، لكنها لا تزال في مرحلة نمو تحكمها تحديات تقنية وتنظيمية. ومستقبلها مرهون بتحقيق التوازن بين الابتكار وإدارة المخاطر، سواء عبر تحسين كفاءة الطاقة أو وضع قواعد عالمية واضحة، بينما تقدم فرصًا للشمول المالي والابتكار، لهذا فإنها تتطلب وعيًا مستنيرًا من المستثمرين والحكومات لتجنب الانتكاسات.
واقع استخدام العملات الرقمية في سورية:
بعد التحرير من نظام الأسد، بدأت بعض الفئات السورية تتجه نحو استخدام العملات الرقمية كوسيلة لتجنب التضخم وانهيار العملة المحلية.
ويرى البعض أنه يمكن أن تلعب العملات الرقمية دورًا مهمًا في تحقيق الاستقرار المالي وزيادة التفاعل الاقتصادي مع العالم الخارجي.
ومع ذلك، يواجه هذا الاستخدام العديد من التحديات القانونية والاقتصادية التي تتطلب حلاً.
حيث تظهر إيجابيات استخدام العملات الرقمية في سورية بالتالي:
- التخفيف من التضخم: يمكن للعملات الرقمية أن توفر وسيلة لحفظ القيمة مقارنة بالعملة المحلية المتهالكة بفعل التضخم. ويمكن للسوريين استخدام العملات الرقمية كوسيلة للتداول وحفظ الأموال بطرق أكثر استقرارًا.
- تسهيل التحويلات المالية: توفر العملات الرقمية وسيلة سهلة وسريعة لإجراء التحويلات المالية بين الأفراد والشركات، مما يعزز التفاعل الاقتصادي ويساهم في زيادة السيولة المالية.
- التفاعل مع الاقتصاد العالمي: يمكن لاستخدام العملات الرقمية أن يسهل على السوريين الانخراط في الاقتصاد العالمي، حيث يمكن استخدام هذه العملات لإجراء معاملات دولية بسهولة وبتكلفة منخفضة.
- التكنولوجيا المالية (Fintech): يمكن أن تساهم التكنولوجيا المالية المستندة إلى العملات الرقمية في تطوير البنية التحتية المالية وتعزيز الابتكار وريادة الأعمال.
وأما سلبيات استخدام العملات الرقمية في سورية فتعود إلى:
- التحديات القانونية والتنظيمية: تواجه العملات الرقمية تحديات قانونية وتنظيمية كبيرة في سورية، حيث قد يكون هناك نقص في الأطر القانونية التي تنظم استخدام هذه العملات وتحمي المستهلكين.
- الأمان والحماية من الاختراق: يواجه المستخدمون خطر الاختراق والسرقة الإلكترونية، مما يتطلب تعزيز الوعي الأمني وتطوير آليات الحماية.
- التقلبات السعرية: تعتبر العملات الرقمية شديدة التقلب في أسعارها، مما يزيد من مخاطر استخدامها كوسيلة للتداول وحفظ القيمة.
- البنية التحتية التكنولوجية: قد يكون هناك نقص في البنية التحتية التكنولوجية اللازمة لدعم استخدام العملات الرقمية بشكل واسع، مما يتطلب استثمارات كبيرة في هذا المجال.
خاتمة:
يرى بعض الاقتصاديين أنه يمكن للعملات الرقمية أن تساهم في وقف التدهور الاقتصادي السوري إذا تم تبنيها وتنظيمها بشكل صحيح.
كما يمكن أن توفر العملات الرقمية وسيلة للتخفيف من التضخم، وتسهيل التحويلات المالية، وزيادة التفاعل مع الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، يتطلب هذا تبني سياسات تنظيمية مناسبة وتعزيز البنية التحتية التكنولوجية والأمان، حيث تلعب العملات الرقمية دورًا محوريًا في تحقيق الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي في سورية بعد التحرير من الأسد.
وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها، يمكن للتكنولوجيا المالية والعملات الرقمية أن تسهم في بناء اقتصاد مستدام إذا تم تبنيها وتنظيمها بشكل صحيح.
حيث من المهم تعزيز التعليم والتوعية حول هذه العملات وتطوير الأطر القانونية لحمايتها وتحقيق الفائدة القصوى منها.
ولقد كنا ممن أيد هذا الرأي سابقا، حيث قدمنا ورقة دعونا بها لاستخدام العملات الرقمية بالشمال المحرر، وذلك بالورقة المنشورة على موقعنا بعنوان: "البنوك الرقمية حلاً للشمال السوري" كما قدمنا توصيات نراها مفيدة بمرحلة ما بعد التحرير، إضافة إلى أننا نوصي في المكتب الاقتصادي لـ تيار المستقبل السوري بما يأتي:
- تنظيم استخدام العملات الرقمية: من خلال إنشاء إطار قانوني يضمن الاستخدام المشروع ويحفز الاستثمار. يمكن استخدام التجربة الدولية في هذا المجال.
- تعليم المجتمع والمؤسسات: بتوفير دورات تدريبية حول استخدام العملات الرقمية بأمان وفعالية.
- تعزيز البنية التحتية الرقمية: بما في ذلك الإنترنت والتكنولوجيا اللازمة لتعدين العملات الرقمية، مع التركيز على الاستدامة البيئية.
- إدارة التقلبات: من خلال إصدار عملة رقمية محلية مستقرة أو استخدام العملات المستقرة التي ترتبط بأصول مادية.
- التعاون الدولي والتنسيق مع الجهات التنظيمية العالمية: لمنع استخدام العملات الرقمية في الأنشطة غير الشرعية.
- تطوير الأمن الرقمي: لحماية المستخدمين من الاحتيال والسرقة الإلكترونية.
- تعزيز التمويل اللامركزي (DeFi): يمكن استخدام التمويل اللامركزي لتقديم خدمات مالية مفتوحة وشفافة بدون وسطاء تقليديين، مما يساعد في تحسين الوصول إلى الخدمات المالية وتقليل التكاليف.
- تشجيع الشركات الناشئة والمبتكرين على استخدام العملات الرقمية في تطوير منتجات وخدمات جديدة، مما يساهم في تحفيز النمو الاقتصادي.
- التنظيم والرقابة: وضع قوانين ولوائح تنظيمية صارمة لمراقبة استخدام العملات الرقمية ومنع استغلالها لأغراض غير قانونية.
- التوعية بالمخاطر: تنظيم حملات توعية للشعب السوري حول المخاطر المرتبطة بالعملات الرقمية وكيفية تجنبها.
- تعزيز الأمان الرقمي وتقنيات الحماية لتجنب الاختراقات والهجمات الإلكترونية التي قد تؤثر على الاقتصاد السوري.
تبقى العملات الرقمية تمثل فرصة ذهبية لسورية لتحقيق استقرار اقتصادي ونهوض جديد، ولكن يتطلب الأمر تخطيطاً وتنظيماً دقيقين لاستغلال هذه الفرصة بطريقة تقلل من المخاطر وتزيد من الفوائد. وتوصياتنا تشير إلى أهمية البنية التحتية، والتعليم، والتنظيم كعناصر أساسية لنجاح هذا الانتقال نحو اقتصاد رقمي، والتي نقدمها لصناع القرار، ومستعدين لأي دراسة تخصصية حول هذا الموضوع وللتعاون نحو المساهمة بوقف التدهور الاقتصادي والمساهمة بنهوض سورية لتكون في ريادة الدول المتقدمة اقتصادياً.
المكتب الاقتصادي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري
المراجع:
- Nakamoto, S. (2008). "Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System."
- European Central Bank. (2012). "Virtual Currency Schemes."
- World Bank. (2021). "Cryptocurrencies and Blockchain."
- DeVries, P. (2016). "An analysis of cryptocurrency, bitcoin, and the future." International Journal of Business Management and Commerce.
- Nakamoto, S. (2008). Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System. Retrieved from https://bitcoin.org/bitcoin.pdf.
- Buterin, V. (2013). Ethereum White Paper. Retrieved from https://ethereum.org/en/whitepaper/.
- IMF. (2021). Global Financial Stability Report: Cryptoassets and Financial Stability.
- World Bank. (2022). The Role of Cryptocurrencies in Financial Inclusion.
- Tapscott, D., & Tapscott, A. (2016). Blockchain Revolution: How the Technology Behind Bitcoin Is Changing Money, Business, and the World. Penguin.
- Yermack, D. (2015). Is Bitcoin a Real Currency? An Economic Appraisal. NBER Working Paper.
- European Commission. (2023). Markets in Crypto-Assets Regulation (MiCA).
- Cambridge Centre for Alternative Finance. (2022). Cambridge Bitcoin Electricity Consumption Index.
- https://sfuturem.org/ma-bd-16-04-24/