مستقبل الإحتلال الروسي لسوريا
أثناء عقد المؤتمر الصحفي السنوي للرئيس الروسي والذي يتناول فيه نتائج العام 2023 حيث يُجيب على أسئلة الصحفيين والمواطنين الروس حول الأوضاع المحلية والعالمية حيث قال نصاً ” إنّ روسيا لاتُخطّط لسحب قواتها من سوريا مُشيراً إلى أنّ مواقع الإنتشار الروسية في سوريا هي نقاطاً وليست قواعد …
وأضاف ” إنّ الجيش الروسي موجود في سوريا من أجل ضمان مصالح روسيا في هذه المنطقة من العالم والقريبة من روسيا” مُؤكداً أنه “طالما أنّ وجود تلك الوحدات العسكرية مفيد لموسكو فإنها ستبقى هناك”
وأشار الرئيس الروسي إلى أنّ بلاده ” لاتبني هياكل طويلة الأمد في سوريا ويُمكنها سحب جميع أفرادها العسكريين من سوريا بالسرعة الكافية ومن دون أيّ خسائر مادية إذا لزم الأمر”
لم يُذيع الرئيس الروسي سراً ..فبالتأكيد كان التدخل الروسي لتحقيق مصالح حيوية وأهداف إستراتيجية لبلاده وكان الطريق إلى ذلك حماية نظام الأسد من السقوط وهو الوسيلة لتحقيق الغاية الأكبر ..ويَعتبر بوتين إستمرار نظام الأسد جاثماً على صدور السوريين لحدّ الآن قصة نجاح روسية ..ودليل على قدرة روسيا على أن تلعب أدواراً هامة في المحيط الجغرافي البعيد عنها….
وفي ظلّ غياب رؤية إستراتيجية أمريكية تطمح الجموح البوتيني …غزى الجيش الروسي جورجيا عام 2008 وإقتطع منها أبخازيا واوسيتيا الجنوبية ..وفي العام 2014 ضَمّ شبه جزيرة القرم على مرأى ومسمع من العالم ولم يُجابَه سوى بعقوبات وتنديدات لم تُوقف إندفاعه لإستعادة دور روسيا كقطب عالمي…
ونتيجة المشهد السوري المُعقّد وخوف البعض من سيطرة فصائل الثورة السورية على دمشق وإسقاط نظام الأسد بعد أن عجزت تشكيلات الحرس الثوري الإيراني في الحفاظ عليه…
البعض رأى أنّ تدخل عسكري روسي في سوريا يحول دون وقوعها بالكامل تحت النفوذ الإيراني…
دولة الإحتلال الاسرائيلي كانت ترى أنّ تجربتها مع الأسد الأب والإبن تجربة ناجحة إذ عملا على حماية حدودها لأكثر من أربعة عقود كاملة من أي تهديد مهما كان حجمه أو مصدره ولامانع لديها من حماية الروس له لأن الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي تتعرف عليه..
والأغلب أنّ الأمريكان لم يعترضوا على ذلك التدخل طالما أنّ الاسرائيليين والعرب راضين به…ووجدوا فيه توريطا لموسكو في مستنقع أفغاني جديد يستنزف فائض القوة الروسي والتهور البوتيني وخوفاً من اجتياح روسي لأجزاء أخرى من دول مجاورة له تحت دعاوى ليس صعباً إتخاذها كذريعة….
وإشترط الأمريكان لإعطاء التفويض للروس هو العمل على إدارة روسية للملف السوري وإنجاز حَلّ يُنهي الحرب في سوريا وعدم تطاير شررها للجوار وفق صيغ واقعية تنبع من واقع الأرض لتطبيق القرار الدولي 2254 بحيث لايموت الأسد ولا تفنى المعارضة…
إستفاد الرئيس الروسي من احتلاله لقرار النظام السوري وإنشاء قواعد عسكرية متعددة أهمها قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية واللتان تقعان على الساحل السوري ..وتُؤمّن نفوذاً روسياً في في حوض شرق المتوسط الغني بالثروات والذي يُحيط من الجنوب بالقارة الأوربية ويُهدّدها…واكتشفنا لاحقاً أنّ كل ذلك الإنتشار الروسي خارج مجاله الجغرافي كان ضرورياً لتنفيذ ما يُخطّط له بوتين من اجتياح لأوكرانيا وتهديد القارة الأوربية من الشرق بل وتهديد للناتو ايضاً….
حاول بوتين النكوص بتفاهماته مع الأمريكان والإستحواذ على الكعكة السورية كُلها لوحده بل وطرد النفوذ الأمريكي لاحقاً….وبعد عدم إيفائه بوعوده في إنجاز حل ما يحظى برعاية دولية… بل حاور إنجاز حل روسي عبر محور أستانة يطيح بالجميع…
تموضع الأمريكان عسكرياً في شرق الفرات بعد هزيمتهم لتنظيم داعش ولم ينسحبوا من سوريا وتم حرمان نظام الأسد من ثلث مساحة سوريا والتي تُشكّل أيضاً الرافعة الإقتصادية لأي تأهيل روسي لنظام الأسد…
وضعت الإدارة الأمريكية قانون قيصر لمنع أي تعويم إقتصادي لنظام الاسد ..وإستمرت الولايات المتحدة في سياسات عزل الاسد سياسياً ودبلوماسياً ورفض إعادته للساحة الدولية أو معاملته كمنتصر في الحرب السورية ..فيما كان الأتراك يُصارعون ويتصارعون ( وأحياناً يتعانقون) مع الروس والأمريكان لتعويض تأخرهم في إتخاذ قرارات إستراتيجية جريئة في سوريا…..
كانت الثورة السورية أبرز الخاسرين من التدخل العسكري الروسي إضافةً إلى الدولة التركية والتي وجدت أنّ دُويلة كردية قد ظهرت إلى الوجود وباتت أمراً واقعاً على حدودها الجنوبية….
كان توازن القوى على الأرض بعد إنتهاء المعارك الكبرى في عام 2020 يفرض على الجميع تجميد الصراع وتثببت خطوط القتال إلى حين ظهور متغيرات ما تسمح بإيجاد حَلّ توافق عليه القوى المتدخلة ويَتمّ فرضه على السوريين ..أو تتغيّر موازين القوى على الأرض وتتغيّر المعادلات التي حكمت المشهد السوري لإحداث إختراق ما يُعبّر عن موازين القوى الجديدة…وحدث ذلك في 24 شباط 2022 عندما بدأ الجيش الروسي يقتحم بلداً مجاوراً له وإنتقلت كل قوته ومعظم جهوده إلى الجبهة الأوربية حيث كان في إنتظاره حلف الناتو والذي بدأ بإستنزاف قدرات الدولة الروسية المدنية والعسكرية ..ويُمكن اعتبار أنّ الملف السوري دخل بعد ذلك التاريخ بمرحلة أخرى….
حدثت القطيعة الكبرى والنهائية بين بوتين والغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً بعد حرب الأول على أوكرانيا …
تَحشّد الأطلسي سياسياً وعسكرياً ضِدّ روسيا وباتت الحرب الساخنة تدور في أوكرانيا بينما الصراع يشمل كل الملفات في كل المناطق…ويبدو أنه صراع صفري لابُدّ من مُنتصر ومهزوم في نهايته وتمّ توقيف كل الإتصالات بين موسكو وواشنطن والخروج من كل التفاهمات ببنهما وخاصةً في الملف السوري حيث لم يعد هناك أي تواصل للإتفاق على أبسط التفاصيل حيث ظهر ذلك واضحاً بفشلهما في التمديد لقرار مجلس الأمن بإستمرار تدفق المساعدات الإنسانية لسوريا وفق الآلية الأممية المعتمدة لذلك
وظهر أثر التورط الروسي في الحرب الأوكرانية بتآكل القوة الروسية العسكرية والسياسية في الساحة السورية وتَجلّى ذلك بسحب نخبة القوات العسكرية والتجهبزات العسكرية وصولاً لإنهاء تواجد ميليشيا فاغنر على الأرض….وسياسياً لم تَعُد الهيبة الروسية قادرة على فرض أي أجندة أو سياسات وتجلى ذلك واضحاً في فشل مسار تطبيع العلاقات ببن تركيا ونظام الأسد الذي رعته وتَبنّته موسكو…
ويرى البعض أنّ من إستراتيجيات واشنطن الكبرى هي إلحاق الهزيمة المنكرة بالجيش الروسي في أوكرانيا وتجريده من ايّ قوى مادية ومعنوية تُؤخّر من هزيمته…فكان الحظر على الطاقة الروسية وحوالي 7000 عقوبة على الإتحاد الروسي وبالتالي إن إخراج النفوذ الروسي وضرب كل المصالح الروسية حول العالم هو أحد تلك الأهداف الكبرى للولايات المتحدة ..وإنّ تواجد قواعد عسكرية روسية في سوريا ونفوذ سياسي شرق أوسطي من خلالها هو مايجب التخلص منه….
وفي البداية لابُدّ من جَعل الوجود الروسي العسكري في سوريا عِبئاً على موسكو وليس ذو فوائد إستراتيجية …وبالطبع دون احتكاك مباشر بين قوات البلدين …وقد جرت تَحرّشات من جانب الطيران الروسي وخرق قواعد التفاهمات في سوريا احتوتها القوات الأمريكية ولم تُعيد فتح أي قناة تفاوضية مع موسكو او تنسيق مع حميميم ..
ويرى البعض أنّ إستراتيجية الولايات المتحدة الجدبدة في المنطقة والتي سَرّعت بها الحرب على غزة هو بناء نظام أمن إقليمي في المنطقة يَضمّ دول المنطقة ويَستثني إيران من أي دور فيه…وذلك بقصقصة أذرعها ثم بترها أو تجفيفها وممكن ضرب منشآتها النووية بعد فشل التوصل لإتفاق بشأنه مع المجموعة الغربية…
قد تكون موسكو وطهران رغبتا في تعطيل ذلك المسار عبر طوفان الأقصى وخلط كل الأوراق …
ولن تَتحقّق تلك المنظومة الأمنية إلا بإخراج الروس والإيرانيين من شرق المتوسط لضمان إمدادات طاقة آمنة للقارة العجوز التي طَلّقت إلى الأبد الطاقة الروسية …وإستثمار الأحواض الكبرى على الساحل بأمان ودون إبتزاز من أحد….
وقد يكون إعلان الرئيس بايدن في قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي عن الممر الهندي العربي الإسرائيلي الأوربي هو الإعلان عن مآلات السياسة الأمريكية في المنطقة بالتعاون مع الحلفاء
كان البعض يتوقع أن تكون البداية الأمربكية لتحفيق مخططاتها هي إغلاق الحدود السورية العراقية وقطع محور إيران الإقليمي جغرافياً…وإضعاف الأسد في دمشق لإجباره عن السير بِحلّ سياسي تمهيداً لإسقاطه…وإجبار حزب الله في لبنان على التخلي عن سلاحه وتَحوّله لحزب سياسي لبناني عبر تطبيق القرارات الدولية 1701 و1559
لايمكن تحديد المواقيت لتنفيذ ذلك لأن الطرف الآخر يُدرك خطورة المخطط عليه… وبعد مفاجاة طوفان الأقصى جارِ التصعيد في باب المندب ومياه الخليج العربي وتهديد طرق الملاحة التجارية الدولية وقد يملك الفريق الآخر مفاجأت أخرى لأنه يملك القدرة والأدوات والمصلحة للتخريب أو التشويش على الجهود الأمريكية….
وتصريح الرئيس الروسي الأخير تعبير عن مخاوفه من الأهداف الأمريكية الحقيقية لكل هذا الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة وفي المتوسط على وجه التحديد وَيُدرك أنه هو الصيد الثمين لانّ دولة الإحتلال لاتحتاج لهذا الحشد في حربها على غزة …بل إنّ رأس القيصر الروسي هو المطلوب أمريكياً…
وبالطبع سَتصبّ التغيرات الدولية الجديدة في مصلحة الثورة السورية والشعب السوري عموماً.. لأنّ من يسند جبل الإستبداد في سوريا هو موسكو وطهران …وتلك العاصمتان هما المستهدفتان والخاسرتان بالنهاية من مآلات الوضع الجديد في المنطقة.
د باسل معراوي